تزخر الموسيقى الشرقية بالعديد من الأشكال والقوالب الموسيقية التى كانت عماد الفن الغنائي فى وقت إزدهاره فى بدايات القرن الماضي، مثل “الموشح” و”الطقطوقة” و”الدور”، من بين تلك الأشكال الغنائية يقع فن “الدور” كأهم وأعقد قالب غنائى عربي والذى أختفى تمامًا بعد أخر أدوار الشيخ “زكريا أحمد” “آمتى الهوا يجى سوا” والذى غنته السيدة “أم كلثوم” عام 1939.
لكلمة “الدور” تاريخًا قديمًا فى الغناء العربى فوردت الكلمة فى كتاب “الأغانى” للأصفهانى وكانت عنوانًا لكتاب “الأدوار ومعرفة النغم والأدوار” الذى ألفه “صفى الدين البغدادى” مطرب الخليفة “المستعصم” أخر خلفاء الدولة العباسية، وأن كان الأدوار التى ذكرت فى تلك الأطروحات لا تشير إلى نفس الأدوار التى بدعها الملحنون فى القرن التاسع عشر ولكن الأشارة هنا للدلالة على أن الملحنون استنبطوا الكلمة منها.
يمكن تعريف “الدور” بأنه نوع من الزجل ينظم متحرراً من فصاحة اللغة والأوزان العروضية المعروفة ، معناه الحركة ، أي عودة الشيء إلى ما كان عليه وفي الجزء اللحني فيلتزم الملحن بالعودة إلى اللحن الأساسي بعد أن يفرغ من التنقل بين المقامات ليستقر على نغمة المقام الأساسية .
لا يمكن التأكيد على ريادة ملحن بعينه فى نشأة فن الدور، وأن كان غالبية المؤرخين يضعوا الشيخ “المسلوب” كأول من وضع الأدوار فى صورتها الأولية حيث كان يتألف من مذهب وأغصان بجملة لحنية واحدة فتغني بطانة المطرب المذهب دون أن يشترك معهم، ثم يغنى المطرب الغصن وحده.
كان عثمان أكثر تطويرًا فى فن الدور فتعددت أغصانه واختلفت كلماته عن كلمات المذهب، وأتاح حرية للمطرب فى التنقل بين المقامات على أن يعود فى النهاية لنفس اللحن الأًصلى وساهم ذلك فى إطلاق العنان للمطربين فى الأرتجال، وأضاف الإيقاعات إلى المذهب، وأدخل الحوار البديع بين المطرب والبطانة من أهات التى كانت تشبه محطة لحنية يبدأ منها المطرب إرتجاله وكانت تسمى تلك الطريقة “الهنك” وكان من أبرز نجومها “عبده الحامولى” و”يوسف المنيلاوى” و”عبد الحي حلمى” و”سلامة حجازى” و”سيد الصفتى”.
لايمكن أن نقول أن لسلامة حجازى أسهامات كبيرة فى فن الدور هو كان مطربًا عظيمًا لكن لم يكن ملحنًا ذو شأن عظيم يضاهى قدرته على التطريب وغنى أدوار “عثمان” مثلما غناها” الحامولى” والشيخ المسلوب دون أن يضيف إليها أى شئ، لكن كان يشهد له الجميع بقدرته العالية على التطريب لدرجة أن الجمهور كان يحتشد داخل المسرح لكى يستمعوا إلى غنائه دون أن يكترثوا بالعمل الدرامى المسرحى بل كانوا يقاطعونه أحيانًا حتى يغنى لهم المووايل .
دور سيد درويش فى تطوير فن الدور
كان البناء اللحنى فى طريقة “محمد عثمان” متماسكًا جدًا يعطى فرصة للمطرب لكى يطلق العنان للأرتجال لكنه فى النهاية يظل أداء المطرب تطريبى محض قد لا يعكس إحساس الكلام، أتى “سيد درويش” فجعل هناك تماهى مابين الكلمات واللحن فكان اللحن فى دور سيد درويش يعبر عن الكلمات بشكل صادق وكأن اللحن ينقل إحساس الكلام للمستمع ويجمع مابين التعبير والتطريب ويمكن ملاحظة ذلك جيدًا فى دور “أنا هويت” و “ضيعت مستقبل حياتى” .
إسهامات أخرى
على نفس المنوال الذى أنتهجه خالد الذكر “سيد درويش ” سار على نفس الدرب الشيخ “زكريا أحمد” حيث كان يهتم بالتطريب وبالتعبير لدرجة أنه كان يصر على أن يكون فى بطانة المغنين خلف “أم كلثوم” حتى يخرج اللحن فى أبهى صورة له .
أما “داوود حسنى” و”كامل الخلعى” فكانوا مخلصين لأدوار “عثمان” أكثر، وصارت أدوارهم على نفس النهج الذى بدعه واقتصر تأثرهم بسيد درويش فى التلحين المسرحى فقط .
كانت لمحمد عبد الوهاب مساهماته فى فن الدور وأن كان أشهر ادواره تطورًا دور “أحب أشوفك كل يوم” من ناحية تطور الألحان.
أختفى فن الدور تمامًا بعد ظهور السينما والتى لم تكن تسمح بأن يطيل المطرب فى غنائه أو تطول وصلات “الهنك” بينه وبين البطانة وصار جزء من الماضى، واتجه الغناء فى العموم إلى الصور الغنائية القصيرة السهلة والتى كانت السينما والمسرح سببًا فى نموها وانتشارها بشكل طغى على الأشكال القديمة التى لم تعد مرغوبة من الجمهور، فأنصرف عنه الملحنون حيث ندرت الأصوات القادرة على أداء تلك الأشكال الغنائية الصعبة التى تتطلب مهارات صوتيه عالية .
تعليقاتكم